الاثنين، 14 نوفمبر 2016

حالة من كتاب حكايات القبو لتامر إبراهيم



من كتاب (حكايات القبو) لـ تامر إبراهيم 
الصورة لـ كريم عبد العزيز من فيلم "الفيل الأزرق" 

************************************

اليوم أحتفل بمرور عامين علي وحدتي ..
أن تعيش وحدك، فهي تجربة قاسية … تجربة فريدة … تجربة ممتعة .. أن تعيش وحدك فهذا هو الكمال في حد ذاته … 
أن تعيش في شقة بمفردك، دون أصدقاء أو أهل أو أقارب أو حتي هاتف يقطع خلوتك الذاتية برنين مزعج، هذا ما كنت أصبو إليه، وهذا هو ما حصلت عليه ..
يغلفنى الصمت التام ... صمت لا يلوثه حتى ضوء الشمس، فلقد دققت ألواحًا خشبية على جميع النوافذ، لأصنع سجنى الخاص الذى لا أملك فيه سوى كتابى الوحيد أيضا، أقرأ فيه كل ليلة دون أن ينتهى …
أستيقظ كل يوم لأجلس ساعات طويلة على الفراش، لا أملك حتى القدرة على معرفه إن كان الوقت ليلًا أو نهارًا، ولا أبارح مكانى إلا لتلبية ضروراتي القصوى، ثم أفتح كتابى وأبدأ فى القراءة حتى يغلبني النعاس، فلا ألتقى بأحد إلا فى أحلام مضطربة أستيقظ منها والعرق اللزج يغمرنى، عاجزًا عن تذكر ما كنت أحلم به ..
هذه هي حیاتی بلا زیادة أو نقصان ...
لماذا اخترت هذا النمط من الحياة ؟؟ ...
لا أذكر... كنت أذكر السبب في مرحلة من مراحل وحدتى، لكن كل الأسباب وكل المنطق ذابوا فى أطنان الصمت الذي يحيط بي من كل جانب ... 
صمت طويل مستمر ثقيل مقدس .. أشك أنني لو حاولت أن أصدر صوتًا، فلن أستطيع أن أبدد جزءًا من هذا الصمت ...
كنت أحدّث نفسى فى مرحلة أخرى من مراحل وحدتى هذه، وهى عادة تحتاج لتدريب وإصرار لتكتسبها، و إلى مزيد من الصمت لتوقف عنها، بعد هذا لن يتبقى لك شيء …
فى المرحلة التى وصلت لها، ستدرك أن الجدوى من أى شئ ... لا شيء !
ستصل إلى حالة لم يصل إليها كاهن قضى نصف عمره فى التبت، وستبدأ الموجودات من حولك، تتحول إلى صور .. صور ثنائية الأبعاد، غير ذات قيمة أو لون …
مجرد ظلال صامتة هى الأخرى … وفى النهاية  … مزيد من الصمت والوحدة ..
أصبحت عاجزًا عن التفکیر فی أی شئ أو تذکر أی حدث مررت به، قبل أن أدفن نفسی فی عزلتی الإختیاریة هذه …
حتى الكتاب الذى أقرأ فيه كل ليلة، أستيقظ دون أن أتذكر حرفاً واحداً مما قرأته ...
لكنى لم أتوقف عن القراءة ... لا يوجد شئ آخر لأفعله…
لا مذياع ... لا تلفاز ... لا صحف ... ولا أنزل حتى من المنزل لأشترى شيئاً من الطعام، فلدى هنا ما يكفينى لأعوام مقبلة …
ولدى الكتاب والوحدة والصمت ... أنا أغنى رجل فى تاريخ البشرية إذن !
دخنت لفترة على سبيل التغيير، لكن سحب الدخان المتراكمة مع نقص التهوية، أجبرتنى على التوقف، وها أنا قد نجحت فيما عجز عنه أى مدخن آخر …
على كل حال لست هنا، لأصف لك سعادتى المفرطة ولا بؤسي المتراكم، أنا هنا لأحكى لك ما حدث - لا يعنى هذا أنك تهمنى فى شئ ! – لعلى أفهم ... مشکلتی بدأت حسبما أذکر ... أذکر ... حتی هذا لا أذکره علي وجه الدقة !!  ... سنوات الصمت أحالت ذاکرتی إلی مصفاة لا تبق علی شئ !. 


*************************



الأحد، 13 نوفمبر 2016

"الساحر .. ليه ؟!!" - وداعًا محمود عبد العزيز



أذهب مع صديقة لي في أحد الأيام إلى أحد المراكز التجارية (المول) لأنها أرادت شراء ثياب جديدة للجامعة، ندخل إلى أحد المحلات وقد انتقت صديقتي مجموعة من الثياب التي راقت لها لتغيب داخل غرفة تغيير الثياب ..

أضيع الوقت في النظر إلى المعروضات قبل أن أجلس على أحد الكراسي وقد تعلقت عيناي بشاشة التلفزيون الذي كان يعرض فيلم "ليلة البيبي دول" ..

هو ليس من أفلامي المفضلة ولم يرق لي كثيرًا حين تم عرضه، كل ما أحببته في الفيلم حينها هو حكاية حسام (محمود عبد العزيز) الذي يحلم بقضاء أمسية رومانسية مع زوجته سميحة (سولاف فواخرجي) ليلة رأس السنة، ولكن تتبدل حقيبته التي أحضر بها البيبي دول لزوجته مع حقيبة إرهابي أتى إلى مصر لتنفيذ عملية اغتيال لأحد الشخصيات السياسية الأمريكية، لتتصاعد الأحداث بين السياسة وحلم ممارسة الحب والبحث عن البيبي دول والكثير من المواقف الكوميدية بين حسام وسميحة اللذين قررا التشاغل بمشروعهما عن الزخم السياسي طوال الفيلم، ولكن الأحداث دائمًا ما كانت تورطهما في السياسة رغمًا عنهما !! ..

يبدأ المشهد _على شاشة التليفزيون داخل المحل_ بين حسام (محمود عبد العزيز) وشكري (جمال سليمان) وقد عَلِقا بزحام العاصمة داخل التاكسي، وأخذ شكري يُحدث حسام عن الحال السياسية للبلد وكيف حصل على تلك الندبة في وجهه أثناء إحدى المظاهرات، وفي الطريق يطلب منه حسام أن يتوقفا عند أحد المطاعم ..

تظل فكرة أن يقضي حسام أمسية ساخنة مع زوجته تطارده داخل المطعم وهو يقرأ قائمة الطعام فيتوقف عند "شوربة الزووو" !! 

يتوقف الزمن داخل المحل مع تردد صوت محمود عبد العزيز بداخل المطعم، يتوقف الجميع عما كان يشغلهم وتتعلق عيونهم بشاشة التليفزيون، ورغم أن كل ما كان يفعله محمود عبد العزيز هو أنه أخذ يقرأ محتويات "الشوربة" العجيبة على صديقه شكري بمنتهي الحماس إلا أن الجميع قد غابوا في الضحك، قبل أن يحدث قطع على أحد المشاهد الأخرى داخل أحداث الفيلم، لتعود الحياة عندها مرة أخرى كما كانت داخل المحل، الزبائن يُقلبون في البضائع وأنا أنتظر صديقتي أن تخرج من غرفة تغيير الثياب ..

تخرج صديقتي من غرفة تغيير الثياب أخيرًا فأخبرها أن ما ارتدته سئ على كل حال وأنه جعلها أشبه بإحدى فتيات الآنمي، لتغيب مرة أخرى داخل غرفة الثياب بحثًا عن حظ موفق مع قطعة أخرى، وأعود أنا من جديد لمتابعة الفيلم أملاً في مُشاهدة المزيد من مشاهد الساحر محمود عبد العزيز، الذي رحل بالأمس وقد ترك خلفه السعادة والحب والسيرة الطيبة في قلوب الجميع.


********************



السبت، 12 نوفمبر 2016

حكاية من كتاب تقارير السيدة راء لرضوي عاشور



من كتاب (تقارير السيدة راء) - لـ رضوي عاشور 
المشهد لـ منة شلبي من مسلسل (حارة اليهود) - الحلقة 7

*****************************

المشروع الأول: القصة الميلودرامية:

أدهشتها صورتها في المرأة. کانت تحمّمت واعتنت بزینتها وتصفيف شعرها وارتدت أجمل ثيابها، ولكن ذلك كله لم يفسر لها التغيير المفاجئ من فتاة لطيفة الملامح إلى الحسناء التي تطالعها في المرآة. غادرت المنزل الی محل الزهور، انتقت ورودًا قرمزیهٔ لها سيقان طويلة، لفها لها البائع في السلوفان بعد أن أضاف لها غصونا دقيقة، أوراقها أشبه بأوراق السرو وإن تميزت عنها بزهور بيضاء منمنمة. كان البائع على وشك أنيربط الباقة بشريط أبيض ولكنها سارعت بإعلامه أنها تريد شريطًا وردى اللون. ناولته النقود وسارات إلى المحطة، باقة الورد في يدها وعلى شفتيها أغنية. في المحطة تطلعت إلى الساعة الكبيرة المثبتة في الجدار، وإلى الساعة الصغيرة حول معصمها. كان الوقت متطابقًا. بإمكانها أن تجلس في المقهى لقضاء الخمس والعشرين دقيقة الباقية على وصول القطار. طلبت قدحا من القهوة. نسيت أن تحتسيه. قامت إلى الرصيف.
يقترب القطار من محطة الوصول، يرج جسدها رجًا بضجیجه ودقات قلبها، تختار موقعًا یمکنها من متابعة کل القادمين. يمرون بها، كلهم يمرون. لم يأت، استعلمت عن مواعد وصول القطار التالي.
وصلت سبعة قطارات.
أنتصف الليل،
قال ناظر المحطة إن القطار التالي يصل صباحا. وکانوالحسن الحظ لا يغلقون مقهى للمحطة في الليل.

**********************************

المشروع الثاني: القصة على طريقة الأفلام الصامتة:

ارتدت ملابسها بسرعة خاطفة ثم غادرت المنزل ركضًا. في المصعد تطلع إليها جارها باستغراب فأنتبهت إلى أنها تمسك فردتي الحذاء في يدها. لبست الحذاء وغادرت المصعد ركضًا إلى بائع الزهور، اصطدمت برجل ثم بامرأة ثم بشجرة فاعتذرت للشجرة. اشترت زهرة وطارت بها إلى المحطة، وصل القطار. دست رأسها في نوافذه، صعدت إلى كل العريات. تفرست في الوجوه. جثت علی رکابتیها و بحثت تحت الکراسی، أعتلت المقاعد وجاست بيديها بين الأمتعة المصفوفة على الأرفف المثبتة على الجانبين. قفزت من القطار وقد أوشك على القيام. أنتظرت القطار التالي، حاذى الرصيف. اندفعت إليه. تعثرت بالأمتعة. اصطدمت بالركاب. سألت. وصفت، استخدمت يدیها في تعزیز الکلمات بالاشارة. هزوا رؤسهم. هرولت إلی مكتبة قريبة من المحطة. اشترت ورقًا مقوى وقلمًا. كتبت بخط أسود سميك اسمه وأوصافه وانتحت جانبا من الرصيف رافعة اللافتة. لا أحد يتوقف. ركضت إلى خارج المحطة. اشترت جرسًا. عادت إلى الرصيف، وقفت تدق الجرس تحاول لفت انتباه المارة إلى اللافتة. توالت القطارات. تصل. ترحل - تشرق الشمس - تغيب الشمس. تصفر الريح. يهطل المطر. يذهب الشتاء. يأتي الصيف. يشتد القيظ. يقرصها الجوع. تأكل الزهرة، لم تنتبه إلى أن ما كتبته على اللافتة اختلط حبره بماء المطر فلم يعد مقروءًا ولا مفهومًا، وأن شعرها الذي بلله المطر وجففته الشمس ثم بلله المطر من جديد صار أشعث، وأن ثوبها أصبح بالیًا کابي اللون ومتهدلاً علی جسمها الضامر، وأن المارة یضعون بجوارها بعض القروش ثم يسرعون الخطو مبتعدین".



**********************************

صديقتي على حق القصة ميلودرامية. تناولت حبة مهدئة ودخلت إلى فراشي. حاولت مرة أخرى تأمل مشروع القصة فقطع تأملي الاستغراق في النوم.

**********************************