الخميس، 25 أغسطس 2016

رسائل البحر .. وحلم المواطن




عالمه الخاص الذي بناه من تغريبة هؤلاء .. 

"نرجس ريحان" التي تقضي ليلة مجنونة بحثًا عن جواز سفرها للحاق بأبنائها في أمريكا خوفًا من الغربة، أو "يوسف كمال" الذي يخرج من منزلة عن طريق الخطأ بعد عزلة دامت 20 عامًا ليصطدم بعالم غريب عليه أثناء بحثه عن "سيد مرزوق"، أو"الشيخ حسني" الثأئر على واقعه الرافض للاعتراف بأنه كفيف وهو يصطحب "الشيخ عبيد" وهو كفيف أيضًا  إلى السينما ويقنعه بأنه يبصر ويشرح له الفيلم !!، أو "يحيى أبو دبورة" ومحاولته الهروب من أرض الخوف والعوده إلى عالمه، حتي أولئك الذين حاولوا سرقة بعض لحظات الفرح من الحياة أو تمتعوا بقدرات غير عادية .. 

يصنع داوود عبد السيد عالمه الخاص من تلك الشخصيات التي لا يجمعها سوي شئ واحد وهو الشعور بالغربة داخل الذات أو العالم المحيط بها !! 

فيأتي عام 2001 ليقدم حكاية جديدة يضيفها إلى عالمه وهي حكاية "المواطن" ليطرح أزمة الطبقة المتوسطة المثقفة وحالة الغربة التي عانتها مع مطلع الثمانينيات، وهي الفترة التي شهدت تغير في التركيبة الاجتماعية والثقافية في المجتمع المصري وصعود من عرفوا بالأثرياء الجدد !!


حكاية (مواطن ومخبر وحرامي) ..


تبدأ حكاية المواطن ويُدعى سليم (خالد أبو النجا) حين يكتشف سرقة سيارته من أمام منزله ويذهب لتحرير محضر بالسرقة، فيتعرف على المخبر _ويلعب دوره صلاح عبد الله_ الذي يعرف منه بسرقة السيارة ويعثر له عليها فتنشأ بينهما صداقة !! .. 

يأتي المخبر لسليم بحياة الشغالة (هند صبري) لتخدمه فتنشأ بينهما قصة حب، نكتشف بعد ذلك أن حياة على علاقة بالحرامي شريف المرجوشي (شعبان عبد الرحيم) الذي تنتظره أن ينهي مدة حبسه، وأثناء ذلك تقوم بسرقة منزل سليم إلا أن المخبر يعيدها بالمسروقات، ولكن سليم لا يجد روايته، فتخبره حياة أنها مع المرجوشي الحرامي والمطرب الشعبي صاحب الفلسفة وأنه يريد أن يراه، يستعيد سليم روايته إلا أن المرجوشي يسرقها منه مرة أخرى!! ..  

نلاحظ تباين الشخصيات التي اختارها داوود عبد السيد ليكنوا أبطال حكايته التي تبدأ أحداثها في (القاهرة عام 1980) وهي الفترة التي بدأ فيها المجتمع المصري يجني ثمارعصر الإنفتاح فدفع ثنمها من تركيبته الثقافية والإجتماعية ..

فنجد "المواطن" .. وقد اختار داوود المواطن المثقف ليمثل الطبقة المتوسطة التي تحاول الحفاظ على توازنها وإرثها الثقافي والفكري في ظل هذا التغير من حولها .. 

"المخبر" .. وهو السلطة في أبسط صورها، وهو أيضًا شخصية آتت من عهد سابق لبداية الأحداث في الفيلم، تواجه تحدياتها الخاصة في مجتمع جديد عليها، فعندما تنشأ الصداقة بين المخبر والمواطن يصرح له المخبر أنه كان يراقبه ويتجسس عليه عندما كان طالبًا في الجامعة !! .. 

نأتي بعدها إلى "الحرامي" .. وقد اختار داوود دور الحرامي ليكون رمزًا للهؤلاء الذين تسلقوا قمة المجتمع في ذلك الوقت، فيقدم الحرامي على مدار أحداث الفيلم صورة مناقدة للمواطن طوال الوقت، تأتى في استعراض منزل المواطن سليم وهو قصر قديم يبدو وكأنه لأسرة من عهد الباشاوات واستعراض للبيت الفقير الذي يسكن فيه الحرامي، الحفلات التي كان يقيمها المواطن في منزله، الأقنعة والطراطير والزينة والموسيقي الكلاسيكية في مشاهد أقرب لحفلات الأثرياء في أفلام الأبيض والأسود والأفراح الشعبية التي كان يحيها الحرامي في حيه الفقير فهو مطرب أيضًا .. 

تظهر في بعض المشاهد محاولة فرض "الحرامي" لثقافته علي "المواطن"، كالمشهد الذي أحضر فيه التمثال كهدية للمواطن وقد وضع عليه جلبيه قامت بتفصيلها "البت سنية الخياطة"، أو حين أمسك برواية "المواطن" بعد أن سرقها للمرة الثانية معلنًا أنها رواية كافرة ويلقي بها في النار، وعندها يحتدم الشجار بين المواطن والحرامي يفقأ المواطن عين الحرامي ليشعر بعدها بالندم، فيتشارك مع الحرامي في دار للنشر ويصدر المواطن أولى رواياته ويطرح الحرامي أول شريط كاست له في السوق، وكأن المواطن قد أعلن استسلامه فلم يجد أمامه سوى التكيف مع الواقع المفروض عليه وهو التعايش مع الحرامي، فتأتي تلك اللحظة وكأنها إسقاط على تلك الفترة التي لم يعد فيها فرق بين المواطن الشريف والحرامي!! .. 

على مدار الأحداث يستمر داوود عبد السيد في التعبير عن حالة الغربة التي ظل يعاني منها المواطن حتي بعد مشاركته للحرامي وإصداره لأولى رواياته أو بعد أن صار أديبًا كبيرًا وحصل على جائزة الدولة التقديرية قفد ظل حلم روايته الأولى يطارده، فيمضي بقية رحلته يقوم بعده محاولات لإعادة كتابتها مرة أخرى إلا أنها كانت تنتهي بالفشل؛فدائمًا كان هناك شئ ناقص !!


رسائل البحر تأليف "سليم سيف أمجد" ..


 لم تكن الرواية التي كتبها المواطن وحرقها الحرامي وظل المواطن يحاول طوال حياته كتابتها مرة أخرى وظلت في نظره أفضل أعماله سوي فيلم "رسائل البحر" الذي قدمه داوود عبد السيد للسينما عام 2010، فيظهر في أحد مشاهد الفيلم الغلاف الخارجي للرواية بعد أن أنجزها المواطن وهي تحمل عنوان "رسائل البحر" كُتب تحتها "تأليف سليم سيف أمجد " !! ..

كعالم "Inception" حين كان على الأبطال دخول حلم أحد الأشخاص ومنه انتقلوا إلى حلم آخر، ينقلك داوود عبد السيد من عالم "المواطن" إلى عالم أخر صنعه "المواطن" بعقله .. 

وكأن "رسائل البحر" هي تغريبة "المواطن" الشخصية، فتأتي بداية الحكايتين واحده، يحيى (آسر ياسين) خريج كلية الطب الذي يتوقف عن ممارسة المهنة ويعاني من العزله لأنه (بيتهته) في إسقاط على حال الطبقه المتوسطة المثقفة التي (تُتهته) في المجتمع، وهي نفس الحالة التي كان يعيشها "سليم" فترة كتابته للرواية، حتى البيت الذي يسكنه يحيى هو قصر قديم كقصر المواطن خاليًا من الحياة ومليئ بالوحده، تبدأ الحكاية حين يطلب منه أخيه بيع القصر والهجرة لأمريكا إلا أنه يرفض فكرة الهجرة وينتقل إلى شقتهم القديمة بالأسكندرية ويعمل بالصيد، وهنا نتوقف عند اختيار سليم لمدينة الإسكندرية لتدور بها أحداث قصته، فهي حلم المدينة المتروبوليتانية التي تتعايش فيها مختلف الجنسيات والديانات والأعراق وكأنها الملاذ الأخير للمثقف بداخله أو "يحيى" الذي يبحث عن ماضيه للتشبث به !! .. 

وحين ينتقل يحيى لشقتهم القديمة بالأسكندرية نتعرف على جيرانه القدامى، وهي الست فرانشسكا الإيطالية (نبيهة لطفي) وابنتها كارلا (سامية أسعد) التي يُقنع يحيى نفسه بالوقوع في حبها أثناء محاولاته العودة لماضيه حين كان طفلاً، فيظهر في أحد المشاهد وهو يردد "أنا بحب كارلا .. أنا بحب كارلا" وكأنه يقنع نفسه بذلك !! .. 

وكأن "رسائل البحر" قد وضع فيها المواطن قطعة من روحه ظل يبحث عنها بعد ذلك، فيأتي التتطابق الوجداني بين يحيى وسليم من خلال الموسيقى التي كان يستمع إليها كل منهما، فسليم كان يمضي وحدته في قصره متأملاً الفراغ مستمتعًا وهو يستمع إلى الموسيقي الكلاسيكية، ويأتي يحيى الذي يملأ وحدته بوقوفه في الشارع تحت شرفة فتاة تعزف المقطوعات الكلاسيكية على البيانو دون أن يعرف من هي ..




يسلط سليم من خلال روايته الضوء على فكرة تقبل الآخر من خلال الشخصيات التي يتعرض لها يحيى بطل قصته منذ انتقاله لمدينة الإسكندرية، فجميعها شخصيات تشعر بالغربة وتتصرف على عكس ما تبدو عليه .. 

قابيل (محمد لطفي) البودي جارد الذي يقرر عدم استخدام قوته بعد أن قتل أحد عن طريق الخطأ ودخل بعدها السجن، كارلا جارة يحيى التي تقرر أن تترك مصر وتعود إلى إيطاليا لتعيش تجربتها بعيدًا عن مجتمع لن يتقبلها، حتى يحيى نفسه الذي يقدم نفسه لحبيبته نورا (بسمة) على أنه صياد سمك ويعتقد هو أنها عاهرة قبل أن تكتشف أنه طبيب ويكتشف هو أنها عازفة البيانو التي يمضي الساعات تحت شرفتها وهي تعزف له وتنتظره أن يراها كما هي على حقيقتها وليس كما صورها له عقله !! ..

ويأتي الظهور لطبقة الأثرياء الجدد أو "الحرامي" كما هو الحال في واقع "المواطن" متمثلة في شخصية الحاج هاشم صاحب البيت الجديد _ويلعب دوره صلاح عبد الله_ الذي يريد إخلاء السكان للمنزل ليبني مكانه مول، وأمام رفض يحيى الرحيل وفرانشيسكا التي لا تعرف لها مكانًا سوى ذلك البيت يتجدد الصراع بين يحيى والحاج هاشم وصبيانه الذين تركهم لحراسة العقار ومراقبة يحيى في الطالعة والنازلة !! ..


عودة لعالم داوود عبد السيد ..



عمل داوود عبد السيد على إضفاء طابع الحلم على فيلمه "رسائل البحر"، فنجد ذلك في الطريقة التي كان يبدأ بها يحيى يومه الذي يحمل له مرحلة جديدة في حياته وكيف ينتهي اليوم وقد تلاشي كل شئ كالحلم، يبدأ في القاهرة ليتلاشي بيته الكبير وينتهي في شقتهم القديمة بالأسكندرية وقد صار صيادًا، كارلا التي دخلت حياته تُحدثه عن أيام الطفولة لتتلاشي في النهاية وكأنها كانت شبحًا، وكذلك مشهد النوة وشجارة مع البحر ليستيقظ بعدها ليجد رسالة من البحر في زجاجة يحاول طوال رحلته فهمها !! ..

ساعد على ذلك بالطبع الصورة السينمائية الرائعة التي قدمها مدير التصوير أحمد المرسي والكادرات التي تم اختيارها بعناية لتقدم بانوراما حية لمدينة الإسكندرية، حتى الموسيقي التصويرية للعظيم راجح داوود التي استهلت مقدمتها من موسيقي "أرض الخوف" ورحلة آدم على الأرض لتلاحقها موسيقي "الكيت كات" ولحظات "الشيخ حسني" وهو يتحسس خُطاه، قليلاً وتنبعث بعدها موسيقي وكأنها "ألف ليلة وليلة" ليكمل على إيقاعها يحيى تغريبته هو الآخر في عالم داوود عبد السيد.





**************************