الكثير من الوجوه، والإيماءات، وتعبيرات الوجه ما بين السعادة والحزن، رسمها مارلون براندو بملامحه طوال مسيرته الفنية على شاشة السينما ليصنع من خلالها أسطورته الشخصية ويصبح أعظم ممثلي عصره. يرحل براندو عن عالمنا بعد مسيرة فنية حافلة وحياةً غلفها طابع العزلة، وقد ترك خلفه كل هذه الوجوه التي لا نعرف من بينها أيهم كان هو الوجه الحقيقي لمارلون براندو.
وعلي الرغم من رحيل براندو عن عالمنا، إلا أن جمهوره كان على موعد مع تجربة فيلمية فريدة من نوعها يقدمها هو عى شاشة السينما بعد ما يُقارب العشرة أعوام على رحيله، ليروي سيرته الشخصية علينا ويعلن عن الوجه الحقيقي له.
يستعد الإنجليزي ستفين رايلي للإعداد لمشروعه السينمائي الجديد عن حياة "مارلون براندو"، ليجد نفسه أمام مجموعة لا نهائية من الأشرطة الصوتية التي وصل عددها إلى ما يُقارب الـ300 شريط، سجلها براندو على مدار حياته ما بين جلسات للتنويم المغناطيسي الذاتي Self Hypnosis، وتسجيلات لمكالمات الهاتف التي حوت مكالمات للمعجبين كان يحتفظ بها، إلى جانب تسجيلات لمكالمات شركات إنتاج تحمل عروض أفلام جديدة له.
ولكن الكنز الحقيقي الذي عثر عليه ستفين رايلي ليصنع فيلمه كانت تسجيلات جلسات التنويم المغناطيسي التي كان يقوم بها براندو، حيث كان يجلس بالساعات أمام المسجل وهو يحاول استرجاع أهم اللحظات في حياته وخاصة "البداية" ليصل إلى تلك العقدة التي ظلت تؤرقه وتطارده طوال حياته، ليحاول التخلص منها والوصول بنفسه إلى مارلون أفضل مما هو عليه.
وقد استوحى رايلي الاسم لمشروعه الوثائقي مع خلال تلك التسجيلات، فأطلق عليه "مارلون، اسمتع إلي" أو Listen To Me Marlon. فيأتي هذا الفيلم بمثابة تحليل نفسي يقوم به براندو لنفسه ليكشف لنا عن شخصيته وحياته الخاصة.
وإلى جانب الأشرطة الصوتية كان هناك مجموعة من الصور الخاصة بمارلون براندو والتي تم عرضها لأول مرة، بالإضافة إلي مجموعة من الأحاديث التلفزيونية والتقارير التي استعان بها ستيفن رايلي وأعاد توظيفها على شاشة السينما لتشكل كل منها في ترتيبها الزمني على الشاشة مرحلة من مراحل حياة مارلون.
البداية مع السينما .. من أرصفة نيويورك إلي الأوسكار
مع بداية الأحداث في الفيلم نستمع إلى صوت مارلون وهو يتحدث عن طفولته وشبابه في مدينة أوماها، وكيف استقل سطح ذلك القطار ليصل إلى مدينة نيويورك بجورب مليئ بالثقوب، فكان يقضي وقته بين الثمالة والنوم على الأرصفة دون أن يزعجه أحد. يستكمل مارلون سرده الذاتي عن أيامه في نيويورك فيتحدث عن أمتع اللحظات في حياته حين كان يقف على ناصية ذلك الشارع في برادواي متأملاً وجوه المارين به، محاولاً تحليل شخصياتهم أو تخيل القصص التي تخفيها وجوههم، وكيف كان يمنحه ذلك شعورًا بالتواصل مع الآخرين.
يتحدث مارلون في ذلك الفصل من حياته عن تحوله إلى ممثل بالصدفة، عندما التحق بمعهد البحوث الاجتماعية بنيويورك وتعلمه التمثيل على يد ستيلا آدلر التي جعلته جزءًا من عائلتها ووقفت إلى جانبه في الوقت الذي كان يشعر فيه بالعزلة والضياع، وكيف رآت فيه ما لم يراه غيرها، فجعلته قادرًا على صناعة شئ في حياته يمكن أن يقال عنه يومًا أنه قد برع فيه.
يتناول المخرج ستفين رايلي في ذلك الفصل أيضًا النجاح الكبير الذي حقيقة مارلون براندو من خلال فيلم "On the Waterfront" وكيف استطاع بأدائه الحصول على الأوسكار وذلك من خلال بعض الأحاديث المصورة ومقاطع من الفيلم. إلا أنه عند الرجوع إلى تسجيلات براندو الذاتية يكشف لنا أن أفضل لحظاته بالنسبة لجمهوره على الشاشة ما هي إلا أسوأ اللحظات إلى قلبه. ليضع المخرج ستفين رايلي مع وصول مارلون إلى هذه النقطة يده على العقدة التي ظلت تؤرقه طوال حياته، وهو محاولته أن يصنع لنفسه صورة مغايرة لتلك التي كانت لدى والده. فعندما يطلب منه المخرج أن يشتعل غضبًا على الشاشة أو يُمارس نوعًا من العنف كان يتذكر والده عندما كان يضرب والدته وهو في الرابعة عشر من عمره. ليبدأ الفيلم مع هذه النقطة التعرض للمزيد من الجوانب المظلمة من حياة مارلون براندو في محاوله للكشف عن الوجه الحقيقي له، الذي وصف الوجه القاسي منها بأنه وجهًا لا يمكنه الاعتراف به.
هوليوود تُدير ظهرها للأب الروحي
يستكمل الفيلم عرضه للمزيد من الجوانب الإنسانية لأسطورة السينما مارلون براندو، فيتطرق إلى مرحلة النجاح والشهرة التي وصل إليها بعد حصولة على جائزة الأوسكار، وكيف تعامل والده مع هذا النجاح، ويتطرق الفيلم أيضًا إلى المرأة في حياة براندو؛ والدته وكيف كان متعلقًا بها في صغره، المعجبات وكيف كان محاصرًا بهم بعد شهرته، فشل زيجته الأولى وكيف منحه ذلك نوعًا من عدم الاتزان خشية أن يحظى طفله بتجربة مماثلة لتجربه الشخصية في أن يحيا وسط أسرة مفككة.
يتحدث الفيلم أيضًا عن مرحلة غامضة من حياة براندو حين فرض على نفسه الغزله في جزيرة تاهيتي، التي تعلق بها منذ كان طالبًا بالمدرسة العسكرية حيث كان يقضي وقته مطالعًا وجوه أهلها في موسوعة ناشيونال جيوغرافيك، حتي أنه قبل العمل في فيلم "Mutiny on the Bounty" ليس فقط إلا لأن أحداثه تدور في تاهيتي، فيترك هوليوود خلفه ليحيا هناك ويخوض تجربة الزواج والأبوة للمرة الثانية.
ويتوقف الفيلم عند أهم الأفلام في مشوار مارلون براندو السينمائي وهو فيلم "الأب الروحي" The Godfather، فيُحدثنا "براندو" كيف خسر حياته المهنية بعد سنوات العزلة التي فرضها على نفسه حتى أنه عمل في مجموعة من الأفلام التي لا يذكر حتي اسمها جعلت مُنتجي الأفلام يفقدوا الثقة في اسمه. فعندما بدأ المخرج فرانسيس كوبولا اختيار أبطال فيلمه "الأب الروحي" رشح مارلون براندو ليلعب شخصية دون كورليوني في أحداث الفيلم، ولكن لم يُبد المنتجين حماسة تجاه ترشيح كوبولا لبراندو، فما كان من براندو إلا أن وضع القطن في جانبي فكه وأخذ يتحدث بطريقة دون كورليوني الهادئة الشهيرة لإقناع المنتجين في ذلك الوقت بقبوله لأداء الدور.
"التانجو الأخير في باريس" .. الوجه الحقيقي لبراندو
تعتبر تجربة مارلون براندو في فيلم "التانجو الأخير في باريس" Last Tango in Paris هي التجربة الأقرب إلى شخصيته الحقيقية، فقد منح شخصية بول التي لعبها في الفيلم الكثير من روحه، فاختلط واقعه بواقع بول فكانت التجربة الأكثر إيلامًا بالنسبة له على شاشة السينما؛ فقد كان مهوسًا بالعزلة.
يطلب المخرج برناردو برتلوتشي من مارلون براندو أن يمنحه شيئًا حقيقًا من حياته فيفرد له مشهدًا إرتجاليًا على شاشة السينما يتحدث فيها عن ماضيه، فيحدثنا براندو عن تلك العقدة التي لازمته منذ طفولته في مشهد أقرب إلى جلسه للعلاج النفسي، وفي المقابل ينمحه برتلوتشي الكثير من لحظات البكاء لكي يُفرغ فيها غضبه تجاه كل ما كان يؤرقه، وأيضًا الكثير من لحظات الحب على الشاشة وهو ما كان يبحث عنه براندو في حياته.
"براندو" والسياسة الأمريكية
بدأ احتكاك مارلون براندو بالسياسة العالمية مع بداية عهده بمعهد البحوث الاجتماعية بنيويورك حيث كان أساتذته مجموعة من اليهود الفارين من هتلر، وقد أظهر براندو تعاطفًا كبيرًا معهم ووصفهم بأنهم قمة المجتمع الأكاديمي في ذلك الوقت.
ولم يكن هذا الرأي سوى بداية لمجموعة من الآراء والمواقف السياسية المثيرة للجدل، فقد شارك براندو في الحراك المدني الذي نظمه الأمريكان من ذوي الأصول الأفريقية للمطالبة بحقوق المواطنة، وقد منحه ذلك مكانة شرفية على المنصة عام 1963 يوم إلقاء مارتن لوثر كينج لخطابة الشهير "لدي حلم"، وعندما سؤاله عن أسباب مشاركته للاحتجاجات أجاب "كنت في مأزق فلسفي، فإن لم أكن أنا من يحمي أخي فمن يحميه؟، وشعرت حينها بواجبي تجاه الآخرين، فماذا لو كان ابني مكان واحد من هؤلاء".
ولكن كانت أكثر مواقف براندو جدلاً هى لحظة استلام جائزة الأوسكار كأفضل ممثل عن دوره في فيلم "الأب الروحي" وإرساله لممثلة شابة من الهنود الحمر في زيهم التقليدي لترفض استلام الجائزة. توضح الممثلة الشابة للحاضرين أن سبب رفض مارلون للجائزة هو الصورة السيئة التي تتعمد هوليوود إظهار بها الهنود الحمر وهم السكان الأصليين للأرض التي يعيشون عليها الآن، وهو موقف مشابه لمقاطعة نجوم هوليوود حاليًا للأوسكار بسبب تجاهل الممثلين من أصول أفريقية واستبعادهم من الجوائز. إلا أن موقف براندو وقتها تزامن مع أحداث محاصرة قوات الجيش لجماعة من الهنود الحمر سيطرت على مدينة صغيرة في ولاية داكوتا الجنوبية.
أما عن دوره في فيلم "Apocalypse now" والذي تدور أحداثه عن الحرب في فيتنام، يقول براندو"أتعجب من هؤلاء الأباء يقومون بارسال أبنائهم للحرب فقط ليجلبوا لهم مزيدًا من الفخر"، ويصف حرب فيتنام بأنها كانت الجحيم بعينه الذي أُرسل إليه خيره الشباب الأمريكي، ويعلن براندو تفضيله لشخصية دون كورليوني في فيلم "الأب الروحي" عن أي دور آخر قائلاً "فبرغم كونه زعيمًا للعصابات إلا أنه كان على استعداد قتل من يحاول الاقتراب من أبنائه".
وعلى الرغم من الهجوم الشديد الذي كان يتعرض له مارلون براندو بسبب آرائه السياسية من وسائل الإعلام أو مجتمع السينما في هوليوود في ذلك الوقت، إلا أنه كان دائم الانتصار لإنسانيته.
********************************
نُشر في موقع "صوت مصر" بتاريخ 5/4/2017