السبت، 22 أكتوبر 2016

(أورلاندو) فرجينيا وولف على شاشة السينما





تلك الرواية التعبيرية التي جرفها إلينا تيار الوعي الخاص بفرجينيا وولف لتقدم لنا السيرة الخيالية للورد أورلاندو أحد شعراء العصر الإليزابيثي الذي يجلس تحت السنديانة يجمع شتات فكره ليكتب قصيدة جديدة للملكة أو ليصف حبيبته بأبسط الصور إلى مُخيلته، فهي بطيخة وأناناسة وشجرة زيتون وزمردة وثعلب في الثلج أو هي كل تلك الصور مجتمعة في آنٍ واحد !! .. 

في العام 1992، تقوم سالي بوتر بإحياء سيرة الشاعر أورلاندو وقد اعتبرته تجربتها الخاصة على شاشة السينما، فهي كما يقولون "قد أخذت الفيلم من بابه" .. فكانت المخرج وكاتب السيناريو هذا إلى جانب مشاركتها في تأليف الموسيقي التصويرية للفيلم وكلمات أغنية النهاية واللحن الخاص بها أيضًا، لتُعيد سرد الحكاية الخاصة بفرجينيا وولف والتي نُشرت لأول مرة عام 1928 !! .. 


البحث عن أورلاندو بين سطور فرجينيا وولف ..

نجحت سالي بوتر إلى حد بعيد في استخلاص حكاية أورلاندو من بين السطور الآدبية اللانهائية التي كتبتها فرجينيا وولف، من وسط كل هذا الإسهاب الفكري الذي يجعل أي قارئ يلهث محاولاً الوصول إلى نهاية الفقرة الواحدة والتي قد تمتد إلى أكثر من صفحة في أحيانٍ كثيرة، وقد عصفت كل تلك الكلمات والجُمل بعقلك وربما طاردتك في أحلامك أيضًا لتجعلك ترى الهلاوس الليلية إذا كنت لم تجربها في حياتك، فلا عجب من مصير فرجينيا وولف التي ظلت الأصوات تطاردها فأثقلت جيوبها بالحجارة لتنتهي في قاع النهر المجاور لمنزلها خشية أن يُصيبها انهيار عقلي ..

تنتهي سالي بوتر وقد وقفت على الخطوط الرئيسية لسيرة أورلاندو، وقد خرجت بها من ثرثرة فرجينيا وولف إلى ثرثرة الأفلام الإنجليزية، حيث تلك الجمل الحوارية الطويلة التي لا يستطيع سوى رجل إنجليزي التلفظ بها دون محاولة التقاط أنفاسه في نهايتها، وتستمع أنت إليها أو تحاول قرائتها عدة مرات على الشاشة دون جدوى، فتكتفي بالمعني الضمني الذي وصل إليك، وكأن الفيلم قاصر على المشاهد الإنجليزي وحده !! ..

وقد يرجع الأمر في ذلك إلى تلك الفترة التي تدور بها الأحداث في ذلك العصر الذي شهد زخمًا آدبيًا وشعريًا كبيرًا، دعك من أن بطل الحكاية هو شاعر أصلاً، فقد استطاعت سالي بوتر خلق حوار شعري مناسب لتلك الفترة، بالإضافة إلى تلك القصائد التي كان أورلاندو ينظمها، والتي لم يكن لها وجود في النص الأصلي لـفرجينيا وولف الذي اقتبست منه سالي بوتر أصدق الجمل الوصفية لشعور أورلاندو وحولتها إلى جمل حوارية جاءت على لسانه أثناء أحداث الفيلم، هذا إلى جانب التجديد الذي أضافته هي إلى الحوار _بعيدًا عن فرجينيا وولف_ فجعلته أكثر حيوية وفكاهة معبرًا عن تجربتها هي كقارئة للنص للأصلي.    




حكاية أورلاندو ..

وتأتي حكاية أورلاندو على شاشة السينما كما قدمتها سالي بوتر على النحو التالي .. 


فهو ذلك الشاب الذي جلس تحت السنديانة في أحد الأيام من العام 1600 ينظم شعرًا للملكة إليزابيث، فمنحته في النهاية لقبًا وقصرًا له ولأبناءه من بعده شريطة ألا يخبو شبابه إلى الآبد، ففعل !!، وعاش أربعمائة عام مر فيها بعدة تجارب إنسانية مثل (الحب، الشعر، السياسة، المجتمع، الجنس، الميلاد) شكلت كل منها فصلاً من حياته، إلى جانب بعض التجارب الأخرى التي صاحبت تلك التجارب كالخيانة والشعور بالفَقّد والاقتراب من الموت !! .. 


اتساع التجربة ..

وقد ساعد على اتساع تجربة أورلاندو الإنسانية استيقاظه في أحد الأيام ليجد نفسه امرأة، لها تحدياتها الخاصة باختلاف الفترات التاريخية، بعيدًا عن عالم الرجال الذي كان يحياه، لتكن مرآة مناقضة أو انعكاس للجنس الآخر في حياته السابقة ..

ويأتي تحول أورلاندو لجنس آخر مناقض لطبيعته سهلاً، فقد اعتاد كل مائة عام أن يستيقظ من ثبات عميق بعد كل تجربة أو فصلاً من حياته وكأنه بعث للحياة من جديد، بأفكار جديدة ووعي آخر يجد معهما حلاً لأحد إشكالاته الوجودية ويبدأ أُخرى!!  ..   

ففي مائة يقع في حب ساشا التي خرجت عليه من الخيمة الموسكوفية ويعاني الخيانة والفَقّد، يُجرب الشعر ويواجه النقد، ويظل شبح المائة عام تلك يطارده في المائة عام الآخرى التي قضاها في الصحراء سفيرًا لإنجلترا في أحد البلاد العربية وقد أعاد اكتشاف ذاته من جديد ومارس التأمل وارتدى الأبيض كما فعل "لورانس العرب" وصار شبحًا، ليواجه في نهايتها الموت ويشكل نظريته الخاصة تجاهه ليستيقظ بعدها في جسد ووعي امرأة وقد صار أكثر انفتاحًا على كل تجربة جديدة تقدمها له الحياة طالما يجد هو أو هي التفسير الفلسفي لها !! ..

فيعبر الصحراء عائدًا أو عائدة لوطنها وهي ترتدي السواد وقد فقدت منصبها السياسي أو ماتت على حد قول الأرشيدوق صديقها ولم يعد لها وجود، فيفتح لها خدم القصر الباب بعد لحظة من الاندهاش الذي يتلاشى سريعًا، فقد اعتادوا على الغرابة من سيدهم _التي صارت سيدتهم الآن_ على مدار قرنين من الزمان !!  


 

مائة عام جديدة ..                                                     

على مدار الـ400 عام التي عاشها أو عاشتها أورلاندو حاول كل منهما الحفاظ على ما ينتمي إليه، وهو القصر الذي منحته إياه الملكة إليزابيث وكان النقطة التي انطلقت من عندها الأحداث، فيسافر أورلاندو في الزمن بحيواة عدة كي لا يفقده، وقد اشتدت المواجهات الخاصة به وهو يحاول الحفاظ على القصر وخاصةً بعد أن صار "هي"، فتنام "هي" في عهد الملكة آن وليس من حقها التملك لتستيقظ في عهد فيكتوريا وقد صار لها لقب "سيادتها" Her Ladyship، وكل ما عليها فعله أن تُوقع باسمها ولقبها على ملكية القصر!! ..

لم يأت الفيلم على ذِكر أي من ملوك إنجلترا الذكور بل اكتفى فقط بذكر هؤلاء الملكات الثلاث اللاتي عاصرتهن أورلاندو، وكأنه يلقي الضوء على حال النساء من خلال أورلاندو _وهي إمرأة _ في عهد نساء مثلها، وقد ظهر ذلك بقوة في الفصل بعنوان (المجتمع) !! ..

ساعد على اتساع تجربة أورلاندو أيضًا المائة عام الآخيرة التي أضافتها لها سالي بوتر _لاحظ أن الرواية نشرت عام 1928 أي أن أورلاندو عاش أو عاشت 300 عام فقط وليس 400_ لتجد أورلاندو نفسها تحاول الهرب من القصف الجوي في الحرب العالمية الثانية وقد انتفخت أحشائها بعد ليلة قضتها مع أحد المغامرين الحالمين بالعالم الجديد في القرن السابق !!  ..

لم يقف الفيلم عند هذا الحد بل سارت أورلاندو في الزمن، وقد استمدت القوة من التجارب اللاتي عاشتها في القرون السابقة، فتحاول تحقيق الأحلام التي طالما راودتها في المائتي عام الأولى التي عاشتها، فقدت الحب في مائه عام ووجدته في مائة عام أخرى، بدأ حلم الشعر والآدب في المائة عام الأولى وتحطم في المائة الثانية ليتحقق في الرابعة وقد جلست أمام صاحب أحد دور النشر الذي وافق على نشر تلك السيرة الذاتية الفانتازية وكأنها من عوالم (ألف ليلة وليلة)، لتنهي بعدها رحلتها تحت السنديانة كما بدأتها !! 


 

عن الملابس وزوايا التصوير وأشياء أخرى..

"كان هو ولا مجال للشك في جنسه...

 رغم أن الموضة السائدة آنذاك كانت تساهم في تمويه ذلك" ..


هكذا بدأت فرجينيا وولف أول سطور روايتها وكذلك فعلت سالي بوتر في أول مشاهدها الفيلمية لسرد حكاية أورلاندو لتصنع واحدًا من الأعمال السينمائية التي يطلق عليها الـCostume Drama، وهي تلك التي يكون فيها الحضور اللافت للملابس باختلاف الفترات التاريخية لتلعب دورًا في أحداث الفيلم .. 

إلا أن كلمات فرجينيا وولف والمُنحنى الذي مهدت له الملابس في الفيلم _وهو تحول أورلاندو من رجل إلى امرأة_ كان له دورًا في خلق جانب من الكوميديا وسط الأحداث ذات الطابع الدرامي، فكل ما فعلته سالي بوتر هو أن تَحرت الدقة في تقديم أزياء الفترات التاريخية التي عاشها أورلاندو على مدار أربعمائة عام، على عكس الأعمال الآخرى التي تعمل على المزج بين أزياء الفترة التاريخية والمعاصر عند تصميم الملابس حتى لا تأتي غريبة أو مبالغ فيها بالنسبة للمشاهد ..

فجاءت ملابس أورلاندو في المائتي عام الأولى _التي قضاها كرجل_ كوميدية وتحمل طابعًا أنسويًا إذا ما قورنت بمقاييس الحاضر، أما عن تلك التي ارتدتها وهي امرأة، فيكفي تلك التنورة التي تشبه المنطاد التي كانت ترتديها النساء تحت أثوابهن في تلك الفترة ومُحاولة أورلاندو السير بها وسط قصرها المزدحم بالأثاث أو الجري بها هربًا من واقعها لتبدأ واقعًا أخر في زمن آخر، فتنتقل بذلك الأحداث ما بين الكوميديا والدراما!! 




وكان لفكرة نظر أورلاندو إلى الكاميرا كاسرًا الحائط الرابع، مع بداية كل تجربة أو عند نهايتها وقد توصل أو توصلت لفلسفتها الخاصة تجاه تلك التجربة، دورًا في خلق المزيد من الكوميديا داخل أحداث الفيلم، فعلى حد قول المخرجة سالي بوتر:

"هي محاولة لنقل الطريقة التي كانت تخاطب بها فرجينيا وولف قارئها في الرواية إلى شاشة السينما، أو تحويل الطرافة الآدبية لفرجينيا وولف إلى كوميديا سينمائية" !!  ..

وقد جاء اختيار تيلدا سوينتن موفق جدًا لكي تلعب دور أورلاندو على شاشة السينما، فهي صاحبة أحد الوجوه الغريبة أو تلك التي ينطبق عليها مصطلح Freak، التي رشحتها لتلعب مجموعة من الأدوار الغريبة والمتنوعة على شاشة السينما .. 

وكما منحت تيلدا الفيلم من ملامحها الغريبة التي أهلتها لتلعب دور رجل على شاشة السينما، منحها الفيلم الكثير من اللحظات الأنثوية على شاشة السينما والتي نادرًا ما تراها تؤديها، وساعد على ذلك اللقطات القريبة Close Ups التي كانت سالي بوتر تلتقتها لوجه تيلدا مع بداية كل مرحلة ونهايتها لتبتعد الكاميرا وتُفاجأ بجنس جديد أو أزياء جديدة وبيئة مختلفة، قبل أن تتحول الشاشة إلى اللون الأسود وقد حملت تاريخ أو عنوان مرحلة جديدة من حياة "أورلاندو".


      

 ************************



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق